بسم الله الرحمن الرحيم
التابعي الذي نتحدث عنه هو شريح بن الحارث الكندي القاضي... أسلم زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه...
قدم من اليمن إلى المدينة في عهد خلافة الصديق رضي الله عنه
كان فقيهاً كبيراً... وكان يتجلى فقهه بالأحكام القضائية التي كان يُصدِرُها... كما قال ذلك التابعي الآخر مكحول: اختلفت إلى شريح أشهراً، لم أسأله عن شيء... اكتفي بما أسمعه يقضي به!!!
ويقول الشعبي : كان شريح أعلمهم بالقضاء
عيّنه عمرليقضي في الكوفة بين الناس منذ أول يوم التقيا فيه... وها كم القصة:
اشترى عمرفرساً من رجلٍ على أن ينظر إليه... فأخذ الفرس فسار به فعطب... فقال لصاحب الفرس: خذ فرسك... فقال: لا... قال: فاجعل بيني وبينك حكماً... قال الرجل: شريح... قال: ومن شريح؟! قال: شريح العراقي... قال: فانطلقا اليه فقصا عليه القصة... فقال: ياأمير المؤمنين ردَّ كما أخذته، أو خُذْ بما ابتعته... فقال عمر: وهل القضاء إلاهذا!! سِرْ إلى الكوفة... فإنه لأول يوم عرفه يومئذ...
وكما كانت عادة عمر بن الخطاب مع ولاته وموظفيه... فهو لم يترك شريحاً دون توجيه وإرشاد... فقد أرسل إليه برسالة يبين له ويذكره بأسلوب القضاء ومنهجه فقال فيها: ((إذا أتاك أمر في كتاب الله فاقض به... فإن لم يكن في كتاب الله وكان في سنة رسول الله فاقض به... فإن لم يكن فيهما فاقض بما قضى به أئمة الهدى... فإن لم يكن فأنت بالخيار إن شئت تجتهدرأيك، وإن شئت تؤامرني... ولا أرى مؤامرتك إياي إلا أسلم لك..))
ثم تلقى شهادةمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: قم يا شريح فأنت أقضى العرب!!!
وهو ذلك القاضي الذي حكم ليهودي على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه... ادعى اليهودي أن درع علي رضي الله عنه له... فجاء علي بابنه الحسن شاهداً فلم يقبل شريح شهادة الابن لوالده... فقضى لليهودي... فأسلم ذلك اليهودي لمارأى من العدل واستشهد في إحدى معارك أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه...
أقام على قضاء الكوفة ستين سنة...
وقضى في البصرة سنة... فقال أحد سكانها: قدم شريح فقضى فينا سنة... فلم يقض فينا مثله قبله ولابعده!!!
ثم قدم إلى دمشق زمن معاوية... وسُمِّي (( قاضي المصرَيْن...))
وكان إذا قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس علي غضاب...
وهذاأمر طبيعي لذلك القاضي... الذي يحكم لهذا على هذا... فلابد لمن سُلب منه شيء جراءحُكم القاضي أن يجد في نفسه شيئاً من عدم الرضا...
بل إنه حكم على ابن له بالسجن!!! فابنه قد كفل رجل، ولكن الرجل هرب... فأصدر الأب حكمه على ابنه... ثم كان يأتي ابنه بالطعام بنفسه وهو في سجنه...
وهناك قصة أخرى لأحد أبناء شريح: قال لأبيه: إن بيني وبين قوم خصومة... فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم، وإن لم يكن لي لم أخاصم... فقص قصته عليه... فقال شريح: انطلق فخاصمهم...فانطلق فخاصمهم فقضى على ابنه!!! فقال له لما رجع إلى أهله: فضحتني... فقال: يابني والله لأنت أحب إلي من ملىء الأرض مثلهم... ولكن الله هو أعز علي منك... خشيت أنأخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فتذهب ببعض حقهم!!!...
انظروا أيهاالأخوة والأخوات إلى العدل والقسط في أجلى معانيها... أرجو أيها الأخوة أن نتحلى بهذا العدل في أنفسنا... في أسرتنا... في عملنا... في جميع نواحي حياتنا... ولكن العدل يحتاج من إلى موضوعية و تثبت وتبين ورشد وضبط للأعصاب والعواطف... فهل نستطيع أن نعدل وأن نكون من المقسطين؟!...
كان شريح لا يسبقه أحدبالسلام...
كان شريح يجعل ميازيبه في داره- أي ميازيب المطر والميزاب هو مصرف لمياه المطر المتجمع على سطح الدار- ولا يسلطها إلى الشارع خشية أن تؤذي أحدالمسلمين...
أرأيتم مدى حرصه على عدم إيذاء المارة من الناس... أريد أن أقف هنا لأقول لكم أننا يجب أن نخرج من إيماننا وعباداتنا بمزيد من القيم والأخلاق والسلوكيات وأن نتمتع بحساسية مرهفة تجاه الآخرين... نريد أخلاقاً تسير بيننا فأريد أن أقول أننا يجب أن نطبق آداب الإسلام التي تمثل المثالية... كل ضمن محيطه ودائرته... فلابد لهذه الدوائر أن تتقاطع وتندمج وتصبح هيكلاً واحداً... فهذه هي الطريق للنهوض بمجتمعاتنا... ولا نبالغ في هذا... فمجتمعاتنا ينخر فيها الفسادوالسرقات في المستويات العليا في الدولة والرشوة وسيادة الأفكار العفنة... ولاتنمية تقوم على أسس الفساد... ولا يعالج الفساد إلا القيم والأخلاق السامية...
كان شريح شاعراً مجيداً...
من أقواله وأشعاره:
رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلت يميني حين أضرب زينبا
وزينب شمس والنساء كواكب إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا...
إني لأصاب بالمصيبة فأحمدالله عليها أربع مرات... أحمد إذ لم يكن أعظم منها... وأحمد إذ رزقني الصب عليها... وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب... وأحمد إذ لم يجعلها في ديني...
كان شريح يقول للشاهدين في مجلس الحكم: إنما يقضي على هذا الرجل أنتما... وإني لمتق بكما... فاتقيا...
وكان يقول للذي يقضي له: أما والله إني لأقضي لك وإني لأرى أنك ظالم... ولكن لست أقضي بالظن، إنما أقضي بما يحضرني من البينة... وما يحل لك قضائي شيئاً حرَّمَهُ اللهُ عليك... انطلق...
استغنى من القضاء قبل موته بسنة رحمه الله تعالى...
عاش مئة وثماني سنين...
توفي سنة ثمان وسبعين للهجرة...
توفي في يومٍ حارّ... وأوصى أن يُصلَّى عليه بالجبانة... وأن لا يؤذن به أحداً... ولا تتبعه صائحة... وأن لا يجعل على قبره ثوب... وأن يسرع به السير... وأن يلحد له...
رحمه الله تعالى وجمعنا معه في أعلى عليين...
من كتاب الأمام الحسن البصري